كانوا يمشون باتجاه منازلهم عائدين من مدارسهم... وبعضهم ينتظر الباص... وصغار يلهون ويلعبون فرحين في الشارع... وآخرون يحتضنون دُماهم... حين حدثت المحرقة «النازية» ليتحولوا فجأة إلى أشلاء مشوهة ومفتتة... لتقضي زهور العمر نحبها... وتموت الأحلام الصغيرة... وتدفن الطفولة وابتسامتها وبراءتها وتفقد تحت الركام... وتقتل معها آمال الأباء والأمهات وأحلامهم.
فالأطفال والأبرياء يروحون ضحية للحماقة والكراهية... ولم تكفهم الكارثة الإنسانية التي خلَّفها الحصار الخانق على القطاع الذي تسبب في كارثة إنسانية غير مسبوقة حرمت 1.5 مليون مواطن فلسطيني في قطاع غزة من الاحتياجات الإنسانية الأساسية... ومنعت عنهم الاعانات والمواد الغذائية التي كانوا يعتمدون عليها... وأدت إلى ارتفاع مستويات الفقر والبطالة وتدهور التعليم والخدمات الصحية بشكل كارثي... لتأتي هذه الحرب الشرسة وتجهز على ما تبقى لديهم من أمل.
ياله من تاريخ أسود... غبي... أحمق... يعيد نفسه... ليصبح من عانى الهولوكوست وضحية الماضي مجرما متوحشا يرتكب المجازر والمذابح... منتهكا بذلك قوانين وأعراف الحروب كلها وحقوق الإنسان ومن ضمنها اتفاقية جنيف... ليمارس العقوبات والإعدامات الجماعية... ويشن غارات جوية على مناطق مكتظة بمدنيين وأطفال وأبرياء لا دخل لهم بصواريخ «حماس»... وتقطع عنهم الكهرباء وتمنع إمدادت المياه النظيفة والغذاء والدواء.
وفي خضم هذه المعاناة الإنسانية... نتجادل نحن في السياسة ونحلل ونبرر ونفسر. لن أتحدث اليوم في السياسة ولن أخوض في حماقة «حماس» ومسؤوليتها... فجراح غزة عميقة وغائرة.. ولا مجال للحديث في أي شيء غير المأساة الإنسانية والدعوة إلى التزام كلا الطرفين بوقف فوري لإطلاق النار... وتزويد القطاع بالإمدادات الإنسانية والمساعدات الطبية الضرورية فورا.
كيف نتجرأ أن ندخل في هرطقات تافهة وسخيفة ونحن من عانى الويلات فترة الغزو... حين لمنا كل من استخدم قضيتنا؟ كيف لنا أن نفكر بهذه الطريقة ونسيِّس القضايا الإنسانية وننظر إليها بعيون إيديولوجية وسياسية ومذهبية؟ كنت أستشيط غضبا، في فترة الغزو الغاشم، حين يتحدث معي أحدهم وأنا في الغربة عن المبررات والتحليلات السياسية للغزو العراقي... وأنا أردد في عقلي يالسخافتهم وانعدام إنسانيتهم... ألا يحسون؟ ألا يشعرون بمرارتنا... بأمي العالقة في الداخل وحدها مع إخوتي الصغار الذين يملأ قلبهم الرعب والفزع؟ يالحماقتهم.. أمسحت من قلوبهم الرحمة؟ كيف لهم أن يحدثوني بتلك التفاهات وأنا مأساتي أكبر وجرحي أعمق؟!
كيف نتحدث بقلوب باردة ونحن نرى مشاهد وصور موجعة تحكي قصص معاناتهم وآلامهم .. كمشهد نحيب الأم الثكلى التي فقدت رضيعها.. وأنات الأب المكلوم الذي يلتثم ببقايا الملابس المحروقة لطفله الوحيد... ودموع أم عمر وهي تقول «أين ذهب؟!.. حبيبي يا عُمر... آه... ما الذي فعلته يا صغيري؟!.. لم تكن تحمل صاروخًا»!!
وتعرَّف الأهالي على جثث أطفالهم الممزقة، وهي تنتشل من تحت الركام... وأطفال يرتعدون من الجوع والبرد... ويعانون التبول اللاإرادي بسبب الفزع والهلع من العتمة ودوي الانفجارات وأصوات الطيارات التي تصم الآذان... حتى أحضان أمهاتهم لم تقِهم من الرعب والذعر... وعشرات الجرحى يتوافدون على المستشفى، التي لم تعد بمقدورها استقبال المزيد، ويعالجون بلا تخدير بسبب نفاد الأدوية والمواد الطبية... وبعضهم ينقل إلى المستشفيات على عربات تجرها حيوانات بسبب نفاد وقود سيارات الإسعاف وتوقفها عن العمل... وحالات من الذهول والشرود والارتباك لأهالي المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم بعد... أهم أحياء أم أموات؟... هل هم في غرف العناية المركزة أم تحت الأنقاض؟...أسئلة كبيرة تبحث عن أجوبة.. وصور كثيرة لم تجعلنا للأسف نترفع على كل الأحقاد ومشاعر الانتقام التي تمكنت من بعضنا.
مواطن غزاوي... لا ينتمي لأي من «حماس» أو «فتح»، ولكنه يقول، في إحدى القنوات التلفزيونية، إن هذه الأوضاع الوحشية البشعة قد تجعله إرهابيا... فهو في الأخير يريد أن يحمي عائلته... ويبقى التساؤل: كيف سيعلم الفلسطينيون أطفالهم معنى كلمة السلام... ولكل واحد منهم قصة مع المعاناة... ورائحة الموت تنتشر في شوارعهم ومنازلهم ومدارسهم... وأماكن لعبهم؟ فكل شيء هناك يذكرهم بالموت... أي أمل بعد ذلك لهم... أي سلام؟
فلنقم جنازاتنا... ولنقدم تعازينا لموت الإنسان فينا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق