هل يمكن أن تتقدم الأمم بالمكابرة والتبرير، أم بفضيلة التواضع وشجاعة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه؟..
يبدو السؤال محسوماً لجهة المنطق، لكن على أرض الواقع «إنسى»، فثقافة التبرير والمكابرة شائعة فى مجتمعاتنا لدرجة أصبحت معها إحدى سماتنا، خلافاً لشعوب فى الغرب مثل الألمان، وأخرى فى الشرق مثل «اليابان»، فبعد الحرب العالمية الثانية اعترف الألمان بأن النازية كانت صفحة سوداء فى تاريخهم وطويت للأبد، ولم يتفرغ اليابانيون للانتقام من الأمريكيين الذين ضربوهم بالنووى، بل تجاوز الشعبان هذه المرارات، وانكبوا على صناعة مجتمع منتج متصالح مع ذاته، لا يسكن جحور الماضى، ويسعى لإعادة عجلة التاريخ للخلف، وركزوا طاقاتهم صوب المستقبل، فأصبحت ألمانيا خلال عقود «أميرة أوروبا» المتوَّجة، وتصدرت اليابان اقتصاديات العالم...
تقودنا هذه المقدمة لمأساة اليهود المصريين المعاصرين، بمناسبة انقراض هذه الطائفة المصرية الأصيلة، التى لم يتبق منها سوى بضعة عجائز، وبوفاتهم سيتحول يهود مصر لفصل بائس من فصول تاريخنا المفعم بالمرارات والخيبات...«لماذا أدفع وأسرتى ثمن خلاف سياسى لم أكن طرفاً فيه بين العرب وإسرائيل؟»..
تساءل «إيزاك»، وهو يهودى مصرى، التقيته مصادفة فى سويسرا قبل أعوام، كان الرجل يتحدث عن نشأته فى حى «السكاكينى» بحنين جارف حتى سالت دموعه، وهو الثمانينى الذى أدرك حقائق الحياة وحكمتها وعبثيتها أيضاً، وبات موقناً بأن عقارب الزمن لن ترجع للخلف، ولن يعود أبناؤه وأحفاده للإقامة فى مصر، لأنهم ببساطة لا يعرفونها...
فى مطعم أنيق بإحدى المناطق الجبلية الساحرة فى سويسرا، بدا المكان كأنه مشهد من فيلم مصرى قديم، يلعب بطولته منير مراد، وتغنى فيه شقيقته ليلى، كانت الأرض مفروشة بالكليم الصوف، وفى صدارة البهو عود وبجواره طربوش أحمر، وفى مواضع كثيرة علق العلم الأخضر الجميل بنجومه الثلاث يحتويها الهلال، حتى أفيشات الأفلام المصرية القديمة وجدت مكاناً على الجدران، بينما تنساب الأغانى المصرية القديمة عبر جهاز «جرامافون» يضفى على المكان حميمية، بينما يشدو عبدالوهاب برائعته «النهر الخالد»...
بدا «إيزاك» متململاً من سرد قصة خروجه من مصر، مكتفياً بالقول إنها واحدة من آلاف القصص المتكررة ليهود مصر فى خمسينات وستينيات القرن الماضى، وقد آثروا السلامة فهاجروا بعد أن سجن بعضهم وحوصر آخرون بأصابع الاتهام بموالاتهم لإسرائيل، لا لشىء إلا لأنهم يهود...
تساءل الرجل بمرارة: لماذا تصر الأم العاقلة على تخيير أبنائها بينها وبين أبيهم؟ نحن ولدنا يهوداً، ولكننا أيضاً مصريون، وإنكارنا يعنى محو صفحة من تاريخ مصر، وما يردده البعض عن ضبط «عملاء» من بين الطائفة الإسرائيلية فى مصر، هكذا هو اسمها حتى الآن بالمناسبة، فهناك «عملاء» من بين المسلمين والأقباط، وليس من العدل أن نعاقب طائفة بذنب بعض أبنائها..
توقف «إيزاك» لحظة وابتسم قائلاً بسخرية مريرة: «كان ينبغى أن يكون هذا المطعم على ضفاف النيل، أو وسط القاهرة»...
سألته: هل تفكرون حقاً فى رفع دعاوى تعويضات ضد مصر؟ فأنكر بشدة قائلاً: «ليست لى شخصياً مطامع مالية، بل غاية ما أنشده هو الحفاظ على معابدنا ومقابرنا، فلا تتركها الدولة نهباً للإهمال، لأن هذه شواهد حيّة على أن اليهود كانوا هناك ذات يوم، فهل هذا كثير؟»...
والجواب، دون أدنى تحفظ، أننا مدينون لإخوتنا اليهود المصريين باعتذار تاريخى عما لحق بهم، حتى اندثرت طائفة أصيلة، ترجع جذورها فى مصر لعهد النبى موسى، وأسهم أبناؤها فى صناعة نهضة مصر فى الاقتصاد والفنون والأدب والقانون وجميع مظاهر الحياة، ولم يشفع لهم كل هذا بل اختزلهم العنصريون فى معتقدهم، واعتبروهم مجرد «طابور خامس» لإسرائيل، وكان بوسعنا أن نستوعبهم، وأن نهيئ مناخاً مواتياً لبقائهم، لأن خصومتنا ليست مع اليهودية، بل ضد اغتصاب أراضى الغير استناداً لمعتقدات دينية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق