لا جديد تحت شمس مصر فيما يحدث لفقراء الأقباط، سواء فى «عزبة بشرى» أو فى الكشح أو الإسكندرية أو القاهرة وغيرها مما لا تتسع مساحة المقال لرصده، فالقصة باتت تتكرر على نحو يقتضى التوقف مع النفس بصرامة، وكمسلم من صلب مسلمين، كثيراً ما سألت نفسى: ماذا يضير الإسلام والمسلمين من وجود كنيسة لأهلنا المسيحيين ليقيموا فيها شعائرهم الدينية، وهل ينتقص هذا منا شيئاً؟
الجواب بالطبع هو: (لا)، لكن لماذا يحتقن الغوغاء ويثورون على هذا النحو الذى بات متواتراً باطراد، أن يحاول الأقباط إقامة شعائرهم الدينية فى مكان متواضع، وغالباً ما يكونون من الفقراء البسطاء لأنهم لو كانوا أغنياء أو متنفذين لاستصدروا القرارات الجمهورية، وتمتعوا بالحماية الأمنية، وتسابق لخدمتهم المسلمون قبل المسيحيين، وما اضطروا للصلاة فى السر، كأنهم يمارسون خطيئة أو جريمة.
أعرف «عزبة بشرى»، كما أعرف بيتى، لأنها قريبة من مسقط رأسى، وهى شأن عشرات الآلاف من القرى الفقيرة المهمشة المحرومة من أبسط مقومات الرفاهية، لكن السمة التى تتميز بها أنها تضم أكثر من مائة أسرة مسيحية، كل جريمتهم أنهم حاولوا الصلاة فى منزل متواضع، مفروش بالحصير يتكدس داخله عشرات الفقراء على الأرض لتلقى بعض العظات الدينية من أحد الكهنة.
وفجأة قامت قيامة المأزومين وحطموا المكان وسيارة الكاهن، وهم يتصايحون بالسباب والتحريض على المسيحيين، والمثير للدهشة أن هؤلاء المسلمين المحتقنين هم أيضاً فقراء يعانون الإهمال والتهميش ومع ذلك لا نراهم ينتفضون ضد مظالمهم بل يتصدون للمسالمين المسيحيين من أبناء جلدتهم ومن يقاسمونهم الفقر والبؤس.
سألت أحد رجال القرية عما أثار المسلمين ضد صلاة المسيحيين، فقال كمن يدلى بسر خطير إنهم يريدون تحويل المنزل لكنيسة، وأضاف بلهجة متحدية إن العزبة لن تقام بها كنيسة مهما كلفهم الأمر، فسألته: وأين يمكن للمسيحيين أن يصلوا؟، فلم يرد، مكتفياً بالتأكيد على أن هذا أمر لا يعنيه، ثم راح يحدثنى عن انتهاك المسيحيين للقانون لأنهم لم يحصلوا على ترخيص بإنشاء كنيسة، والمثير للسخرية أننى كأحد أبناء المحافظة أعرف جيداً أن هذا الرجل لا صلة له من قريب أو بعيد باحترام القانون، فهو يهرب السلع التموينية المدعمة، وينقب عن الآثار، ويرتكب كل أنواع المخالفات، ومع ذلك "ينقح" عليه القانون حين يتعلق الأمر بالكنيسة، أليس هذا خللاً فى بناء الضمير الجمعى؟
وتعكس هذه الأحداث المتواترة خللاً آخر يتعلق بأداء الدولة وأجهزتها، حيث تتراوح مواقفها بين التقاعس وغض الطرف، وتتفاقم المشكلة فى ظل عجز الأجهزة السياسية والأحزاب عن تقديم الحلول واكتفائها بعد كل اعتداء باقتراح «قعدة عرب» على طريقة «تبويس اللحى»، وعفا الله عما سلف، لتتكرر الأزمة فى مكان آخر، وهكذا تتدحرج كرة النار لتحرق الوطن بأسره.
تكرار الاحتقانات الطائفية يؤكد ارتداد المجتمع للهويات الفرعية، الأمر الذى مر بمرحلتين: الأولى حين لعبت الجماعات المتأسلمة بورقة الأقباط كجزء من مخططها لتفجير المجتمع من داخله بالسطو على محال المسيحيين وكنائسهم للضغط على النظام وإضعافه.
أما المرحلة الراهنة من الفرز الطائفى، فهى الأخطر لأنها محصلة عمليات شحن تتم بإلحاح، وتتعمد تصدير الهوس الدينى بطريقة منهجية تتورط فيها مؤسسات وجماعات، بعضها ظاهر للعيان والآخر خفى، وتكمن خطورة هذه المرحلة فى كونها تستخدم البسطاء المأزومين كوقود لانفجار اجتماعى بالغ الخطورة ربما يحدث لأهون سبب، ووفق سيناريو عبثى خارج نطاق التوقعات.
وإذا كان جهابذة الحكم فى المحروسة اعتبروا أن مواجهة وباء «أنفلونزا الخنازير» يكون بالتخلص من ملايين رؤوس الخنازير، لا لشىء إلا لارتباط اسمها بالفيروس لفظياً، ولم يصغوا لنداءات منظمة الصحة العالمية، فندعو الله ألا يكون التخلص من وباء الاحتقان الطائفى بالتخلص من الكنائس، وهذا ليس من باب السخرية السوداء، فكل شىء وارد فى غياب العقل وسطوة الخطاب الدينى المهووس القائم على رؤية الآخر باعتباره عدواً، فضلاً عن معالجة الأزمات السياسية بالمسكنات، وتحول تعبير المواطنة من فعل حقيقى إلى مجرد قعقعة لفظية فارغة، وتهافت المعالجة الإعلامية لأسباب الاحتقان الطائفى، مكتفين بعناق القس والشيخ، بينما تواصل فضائيات التحريض والتعبئة غسل أدمغة الملايين.. ليس أمامنا إلا أن ندعو الله أن يحفظ مصر من ممارسات بعض أبنائها.
4.7.09
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق