بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدىالاستراحات ..كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بل بالغيبة والتعليقات الغيرلائقة..كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم .. وغيبة الناس .. وهم يضحكون..كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ..أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق.. والأدهىأنّيوضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول ..عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة ..وجدت زوجتي في انتظاري .. كانت في حالة يرثى لها ..الظاهر أن موعد ولادتها صار وشيكا ...سقطت دمعة صامته على خدها ..أحسست أنّي أهملت زوجتي ... حملتها إلى المستشفى بسرعة ..دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ..كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر .. تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاً حتىتعبت .. فذهبت إلى البيت ..بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم نادر الاسم الذي اخترته لابنيأول ما رأوني أسأل عن غرفتها ..دخلت على الط بيبة .. كلمتني عن المصائب .. والرضى بارادة الله ..ثم قالت : ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!خفضت رأسي ... وأنا أدافع دموعي .. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمىبقيت واجماً قليلاً .. لا أدري ماذا أقول .. ثم تذكرت زوجتي وولدي ..لم تحزن زوجتي ... كانت مؤمنة بارادة الله..خرجنا من المستشفى .. وخرج نادر معنا ..في الحقيقة .. لم أكن أهتم به كثيراً..اعتبرته غير موجود في المنزل ..كبر نادر ... بدأ يحبو .. كانت حبوته غريبة ...قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي .. فاكتشفنا أنّه أعرج ..أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ..أنجبت زوجتي بعده فادي و كيرلس..مرّت السنوات .. وكبر نادر .. وكبر أخواه ..كنت لا أحب الجلوس في البيت .. دائماً مع أصحابي ...لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ..لم أكن أحس بمرور السنوات ... أيّامي سواء .. عمل ونوم وطعام وسهر ..استيقظت في يوم أحد ..ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي .. كنت مدعواً إلى وليمة ..مررت بصالة المنزل .. استوقفني منظر نادر .. كان يبكي بحرقة !إنّها المر ّة الأولى التي أنتبه فيها إلى نادر يبكي منذ كان طفلاً تبعته .. كان قد دخل غرفته ..رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ..ثم بدأ نادر يبين سبب بكائه .. وأنا أستمع إليه وأنتفض .. تدري ما السبب !!تأخّر عليه أخوه فادي .. الذي اعتاد أن يوصله إلى الكنيسة ..ولأنها صلاة القداس .. خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ..نادى فادي ... ونادى والدته .. ولكن لا مجيب .. فبكى .. أخذت أنظر إلىالدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين ..لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ..وضعت يدي على فمه .. وقلت : لذلك بكيت يا نادر !!..قال : نعم ..نسيت أصحابي .. ونسيت الوليمة .. وقلت :نادر لا تحزن .. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى الكنيسة ؟ ..قال : أكيد فادي .. لكنه يتأخر دائماً ..قلت : لا .. بل أنا سأذهب بك ..دهش نادر .. لم يصدّق ... ظنّ أنّي أسخر منه .. استعبر ثم بكى ..مسحت دموعه بيدي .. وأمسكت يده ..لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها الكنيسة ..لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف .. والنّدم على ما فرّطته طوالالسنوات الماضية ..كانت الكنيسة مليئاً بالمصلّين .. إلاّ أنّي وجدت لنادر مكاناً في الصف الأوّل..استمعنا للوعظة معاً وصلى بجانبي .. بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه ..بعد انتهاء الصلاة طلب منّي نادر انجيل ...استغربت !! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟كدت أن أتجاهل طلبه .. لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره .. ناولته الانجيلطلب منّي أن أفتح الانجيل على انجيل متى ..أخذت أقلب الصفحات تارة ... وأنظر في الفهرس تارة .. حتى وجدتها ..أخذ مني الانجيل ... ثم وضعه أمامه .. وبدأ في قراءة الاصحاح .. وعيناه مغمضتان ..إنّه يحفظ الانجيل!!خجلت من نفسي.. أمسكت انجيلا..أحسست برعشة في أوصالي.. قرأت .. وقرأت..دعوت الله أن يغفر لي ويسامحني ..لم أستطع الاحتمال .. فبدأت أبكي كالأطفال ..فحاولت أن أكتم بكائي .. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ..لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ... ثم تمسح عنّي دموعي ..إنه نادر !! ضممته إلى صدري ..نظرت إليه .. قلت في نفسي .. لست أنت الأعمى .. بل أنا الأعمى ..عدنا إلى المنزل .. كانت زوجتي قلقة كثيراً على نادر ..لكن قلقها تحوّلإلى دموع حين علمت أنّي ذهب ت للكنيسة مع نادر..من ذلك اليوم لم يفتني قداس..هجرت رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة طيبة كلهم من ابناء الكنيسة..اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ..الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني نادر ..ذات يوم .. قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدة للكرازة تردّدت في الذهاب.. واستشرت زوجتي ..توقعت أنها سترفض .. لكن حدث العكس !فرحت كثيراً .. بل شجّعتني ...فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها للخطيئة..توجهت إلى نادر .. أخبرته أني مسافر ... ضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً..تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ..كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي..اشتقت إليهم كثيراً .. آآآه كم اشتقت إلى نادر !!تمنّيت سماع صوته .. هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ..إمّا أن يكون في المدرسة أو الكنيسة ساعة اتصالي بهم ..كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه .. كانت تضحك فرحاً ً ..إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها .. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة .. تغيّر صوتها ..قلت لها : أبلغي سلامي لنادر.. فقالت : إن شاء الله .. وسكتت ..أخيراً عدت إلى المنزل .. طرقت الباب ..تمنّيت أن يفتح لي نادر ..لكن فوجئت بابني كيرلس الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ..حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا .. يابا ..لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ..أقبلت إليّ زوجتي .. كان وجهها متغيراً .. كأنها تتصنع الفرح .تأمّلتها جيداً .. ثم سألتها : ما بكِ؟قالت : لا شيء ..فجأة تذكّرت نادر .. فقلت .. أين نادر ؟خفضت رأسها .. لم تجب .. سقطت دمعات حارة على خديها ..صرخت بها .. نادر .. أين نادر ...؟لم أسمع حينها سوى صوت ابني كيرلس.. يقول بلثغته : بابا .. نادل لاحالسما .. عند يسوع..لم تتحمل زوجتي الموقف ... أجهشت بالبكاء .. كادت أن تسقط على الأرض ..فخرجت من الغرفة ..عرفت بعدها أن نادر أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين ..فاشتدت عليه الحمى .. ولم تفارقه .. حين فارقت روحه جسدهولاده نادر بهذا الشكل لم تكن صدفه بل كان بهدف عند الله وقد سافرنادر بعد ما تحقيق هذا الهدف وفرحته بالله في حياته..((الرب صالح للكل ومراحمه علي كل اعماله))
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق