لم يكن خيار الكتابة عندى ترفاً، فمنذ امسكت بالقلم لأشتبك مع الشأن العام ـ يناير 1992 ـ لم تنقطع المصادمات مع من تؤرقهم سطورى ويصدمهم طرحى، فقد كان انحيازى وأظنه لايزال لترسيخ قيم العدالة والحق، وكسر التابوهات المصطنعة فى إلتزام بالأطر القانونية والأخلاقية، وفى القلب حب لا يبارى لوطن غير متكرر اسمه " مصر " البشر والتاريخ والمستقبل، لم يختلف الأمر إذا تعلق الطرح بالشأن الكنسى أو تعلق يالشأن الوطنى.
يبقى أن التفاعل مع الطرح هو المقابل الموضوعى الذى ينتظره الكاتب، وبين الكتابة والتفاعل نستطيع أن نحكم على المجتمع ونقيس مدى قابليته للتطور والنمو، ومن هنا تأتى خطورة الكلمة ومسئوليتها، وحساسية أصحاب القرار كل فى مجاله وتفهمه للتكامل مع اصحاب الرأى بغير أن يحسب ملاحظاتهم أو رؤاهم نقداً أو انتقاصاً لجهده وأدائه.
شئ من الصدمة استشعره فيما يتعلق بمواجهة سياقات الإحتقان الطائفى، والمعالجات السطحية لحوادثه المتكررة والمختزلة فى إخلال فى المربع الأمنى والذى قد ينجح فى إطفاء حرائقه لكنه لا يفلح فى اجتثاث جذورها، فتبقى نيرانه تحت الرماد، ولعل هذا يفسر التكرار المتواتر والمتسارع للأحداث الطائفية بل ويفسر التقارب الزمنى بينها فى السنتين الأخيرتين.
وعندما عدت إلى أوراقى هالنى أن التحذيرات كانت متكررة الى حد التطابق والإشارات كانت واضحة للمسببات ورؤى العلاج كانت محددة ، وكنا نتوقع من الفاعلين فى البرلمان والتنفيذيين ترجمتها إلى فعل وقرارات تجنبنا مخاطر التكرار المتصاعد والتى قد تنفجر فى وجه الوطن فى غير اتجاه تحت تأثير الخيار المجتمعى العشوائى.
واستأذن القارئ فى أن اضع أمامه نموذجاً فادحاً فعندما باغتتنا الأحداث الإجرامية التى شهدتها قرية " بمها " مركز العياط محافظة الجيزة، مايو 2007، والتى حملت تحولاً فى الأداء فبعد أن كان مشعلوا الحرائق الطائفية وفاعلوها من عناصر الجماعات المتطرفة، صاروا من البسطاء من غير المصنفين على قوة هذه الجماعات، بادر التيار العلمانى القبطى بإصدار بيان ينبه لخطورة هذا التحول، ولم يكن هناك من يقرأ أو من يسمع أو يحرك ساكناً، وعندما وقعت احداث فرشوط 2009 واحداث نجع حمادى 2010 تكررت بياناتنا، ولم تتغير محتوياتها، ولم تتغير مواقف من وجهت اليهم.
كانت سطور بيان بمها تقول: العلمانيون الاقباط بصفتهم الوطنية وانتمائهم المصرى ومن منطلق حرصهم على سلامة امتهم قد راعهم تكرار الاحداث الطائفية بشكل بات خطرا شديدا لا يجب السكوت عليه بل مواجهته بكل شجاعة وشفافية وروح وطنية معاصرة ، وهم يرون ان الأحداث الدامية التى وقعت بقرية بمها بالعياط تؤكد أننا أمام كارثة تهدد أمن الوطن وسلامه ، وتؤكد فشل سياسات اطفاء الحرائق والحلول الوقتية والتى تعالج العرض وتترك المرض .
ومكمن الخطر أن هذه الأحداث لم ترتكبها جماعات ارهابية أو جماعات متطرفة منظمة ، إنما وقعت من مواطنين عاديين وقعوا تحت تأثير شحن منتظم ومتوال دفعهم الى الإعتراض على حرية الأخرين ، بعد أن استقر فى ذهنهم أن بناء كنيسة يعد من الأعمال المحرمة شرعاً وتستوجب المقاومة والهدم والقتل ، الأمر الذى دفعهم وفق ما تواتر من انباء للقيام باعمال عنف ضد مواطنيهم الاقباط المسيحيين العزل وضد ممتلكاتهم ، فى تجمهر انتظم بعد صلاة الجمعة انطلق من مسجد القرية ، الأمر الذى يجعلها قابلة للتكرار وبشكل أسوء فى أى قرية أو نجع فى ربوع الوطن بدليل تكرار نفس هذا المخطط قبل ذلك كثيرا .
ونحن لا نصدر بيانا للشجب أو التنديد أو الإستنكار لكننا نطالب السيد رئيس الجمهورية بما يملك من صلاحيات دستورية ان يضع حدا لهذا الخراب الذى يهدد الوطن بتشكيل لجنة رفيعة المستوى تضم رموزاً من عقلاء الأمة المصرية لفتح ملف العنف الطائفى الذى كلف الوطن خسائر فادحة على مدى اكثر من ربع قرن والذى تضخم بشكل ينذر بوقوع كارثة وطنية قد لا نملك مواجهتها ، ونطالب السيد الرئيس بدراسة هذا الملف بشفافية وحزم على غرار لجنة تقصى الحقائق التى تشكلت برئاسة الدكتور جمال العطيفى عقب احداث الخانكة 1972 ، على أن تعلن النتائج عبر كل وسائل الإعلام حتى نضع ايادينا على المسببات الحقيقية لهذا الطاعون .
ونحن نرى اننا بحاجة بجانب هذا الى تحرك سريع وجاد سياسى وأمنى يطوق الأزمة وينزع فتيلها ونرجو الا يجئ مثل المرات السابقة خصما من مدنية الدولة وخصما من سيادة القانون وترسيخا لسلوكيات قبلية تضعف الدولة المدنية وهيبتها فى مقابل الانتصار للاعراف القبلية التى تعيد انتاج مثل هذه الاحداث ، وإلى تحرك على مدى أوسع يعيد النظر فى الآليات التى تمتلك تشكيل وجدان وعقل المواطن المصرى وهى تحديدا ؛ الثقافة والإعلام والتعليم والتى تؤكد ظواهر عديدة انها اخترقت طائفياً ومنها يتفشى الفكر الطائفى والذى ينتج اعمالاً ارهابية غير مسئولة ، سواء بزيادة مساحة البرامج أو المقررات أو المطبوعات التى تحض على الكراهية أو تدعو للتمايز الدينى ، واختفاء المواد التى تكرس فكر المواطنة والمجتمع المدنى فى مناخ متراجع ثقافياً ومختنق اقتصادياً ، وفى وجود لعناصر مؤججة للصدام الطائفى وتعلن عن ذلك بغير مواربة عبر تنظيمات محظورة لكنها تتحدى القانون والمجتمع والدولة .
ونطالب بعودة المؤسسات الدينية الى دورها الروحى المنوط بها وابتعادها عن العمل السياسى ووضع ميثاق ملزم لها بعدم التعرض تصريحا أو تلميحاً للمعتقدات الدينية الأخرى ، وعدم اشتغالها هى ورموزها بالعمل السياسى بأى شكل من الأشكال .
ونطالب بتشكيل لجنة من خبراء القانون لتفعيل مبدأ المواطنة الدستورى بتنقية القوانين واللوائح والتعليمات من النصوص التى تدعم الطائفية ، وتقديم هذا العمل الى البرلمان المصرى لتقنينه ، وتغليظ العقوبات بشأن كل من يرتكب فعلاً طائفياً أو يحض عليه بكل وسائل التأثير.
ونطالب بسرعة اصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة حتى نغلق الباب امام الإلتفاف ولى عنق القوانين المجحفة وغير المنطقية التى تحكمنا بعقلية الدولة العثمانية فى عصر باتت فيه ثقافة الملل والطوائف نوعا من العار والتخلف.
فنحن أمام كارثة تهدد الوطن بكل طوائفه ولا تحتمل التلاعب بمقدراته وأمنه وسلامه ، فلنتكاتف اذن لحماية وطننا الذى يحتوينا جميعا ولك السلامة يامصر.
وفى بيان احداث فرشوط تكرر التحليل الذى قلنا فى مقدمته : شهد صعيد مصر خلال فترة وجيزة تكرار لحوادث عنف موجهة ضد المواطنيين المصريين المسيحيين، فى اكثر من محافظة (فرشوط محافظة قنا ـ ديروط محافظة اسيوط ـ سلسلة مدن وقرى بمحافظة المنيا )، وتأتى هذه الأحداث محملة بنسق جديد فى الإعداد والتصعيد ينذر بنتائج لا يمكن احتوائها حتى أمنياً ، ويكشف عن وجود تخطيط محكم يلعب على ما يمثله البعد الأخلاقى والشرف فى مصر بعامة وفى الصعيد بخاصة، ويستخدمة لتأجيج المواجهات الطائفية
وهالنا تقاعس الإدارة المحلية بدءاً من محافظ الإقليم وحتى المجالس الشعبية المحلية ونواب مجلسى الشعب والشورى لتلك المناطق عن القيام بدورهم المنوط بهم بل هناك اشارات عن تواطئهم ومباركتهم لتلك الأحداث الأمر الذى يستدعى اجراء تحقيق سيادى حول هذا الأمر.
ورغم كل النداءات السابقة فقد تم القاء العبء بجملته على الأمن رغم أن الأحداث تتجاوز قدرات الأمن وصلاحياته ودوره الإحترافى ، والذى قد ينجح فى اطفاء الحريق لكن جذوة النار تبقى مشتعلة تحت الرماد وتبقى قابلة للإنفجار مرة ومرات.
وتكرر نفس الطرح فى احداث نجع حمادى الدامية ، وتكرر معه خيار الصمت ، رغم الحراك المستنير لشركاء الوطن المسلمين وهو ما تناولناه فى العديد من المقالات على صفحات الاهرام المسائى وروز اليوسف .
ومازلنا نواجه ثنائية الطرح والصمت ، حتى وصلنا الى احداث مطروح الأخيرة، والذى يشهد محاولات غسل الايدى منها ومحاولة ايجاد مبررات لها بشكل يكشف عن عقلية بيروقراطية مازالت تعيش وهم " كله تمام " وهى لا تدرى انها تعمق الشرخ فى جدار الوطن.
وطالما بقى العرض مستمراً فسنحيل تحليل تلك الاحداث الى مقال تال
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق