10.10.08

فى البدء كان كوهين بقلم د / ناجى يوسف

مع أنني لست من المولعين بمشاهدة الأفلام العربية، إلا أنني حرصت علي رؤية فيلم "حسن ومرقص"، ليس لاقتناعي بدور الفن وخاصة الأفلام والموسيقى فى تغيير مفاهيم الشباب وتوجيههم لما فيه خيرهم وخير بلادهم أو العكس فحسب، وليس فقط بسبب اقتسام عملاقين في التمثيل لبطولته – عادل إمام وعمر الشريف - بل لأرى كيف يعالج الفيلم مسألة الكراهية المتأصلة داخل بعض المسيحيين للمسلمين وداخل المسلمين للمسيحيين وخاصة في مصر، تلك الكراهية التي زرعتها الأيام والهيئات والقيادات ، دينية كانت أم حكومية، منذ عشرات السنين، وروتها أحداث ومواقف وقوانين ومواد في الدستور وغيره، حتى أصبح لها جذور متشعبة متمكنة داخل قلوب المسلمين وبعض المسيحيين علي السواء. وما أنا بناقد للفيلم أو قصته أو أحداثه في هذا المقال، مع أن لي عليها الكثير، من محاولة لإلصاق العنف والإرهاب والقتل والتفجير بعنصري الأمة المسيحييين والمسلمين بالتساوي، ومحاولة إلصاق هذا العنف بتعاليم الكنيسة والجامع ورجال الدين المسيحي والإسلامي بالتساوي، مما أفقد الفيلم مصداقيته لدى المشاهد الحاذق منذ بدايته حتى نهايته، فلم يسمع من قبل أن قسيساً أو كاهناً قام يخطب في الناس أو يحرضهم علي حمل سيف أو الاعتداء علي مسلم أو سرقة وتحطيم صيدلية إسلامية أو محل تاجر ذهب ومجوهرات مسلم ، ولم يسمع أن مخبولاً أو مختلاً عقلياً -كما اعتادت السلطات أن تصفهم- مسيحياً واحداً ذهب إلي جامع وأعمل القتل في المصلين الساجدين من ظهورهم، ولا فجر جامعاً يوم عرس وحول العرس إلي جنازة كبيرة، ولا حرق بيتاً وحاصر أهله بالخناجر والسكاكين حتى لا ينجون، وأتمنى أن لا يسمع هذا أبداً علي الإطلاق، فهذه كلها ليست من شريعة المسيح السلام وإله السلام ورب السلام. وإذا طلب كاهن أو قسيس (كما جاء بالفيلم) من المصلين المسيحيين أن يكسروا يد من يعتدي عليهم قبل أن ينفذوا وصية المسيح تبارك اسمه "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلي مبغضيكم..." لما استطاع أن يصمد أمام المصلين المسيحيين الذين يعرفون شريعة إلههم ولا يسمحون لأي من كان أن يلغيها لتحقيق أغراضه، ولكنا قد سمعنا أن أحد المسيحيين قد اقترف إثماً واحداً مما ذكرته سابقاً، ولو حدث مرة واحدة لنفخت فيها وسائل الإعلام وركزت عليها لأسابيع وشهور وسنين، ولحملت المسيحيين وزر كل ما يحدث في مصر من مصادمات دينية . لكن ما دفعني لكتابة هذه السطور هو غياب الحديث عن كوهين أو الإشارة إليه من قريب أو بعيد، فكما نعلم جميعاً أن عملاً فنياً سابقاً كان قد عرض من قبل تحت عنوان "حسن ومرقص وكوهين" أي "مسلم ومسيحي ويهودي"، واليوم أصبح حسن ومرقص فقط. وقد يقول قائل ما لنا وكوهين الآن، فعندما كان كوهين يعيش في مصر ويمثل جزءاً من المجتمع ويؤثر فيه كان هناك احتياج لحسن ومرقص وكوهين، أما الآن فبعد أن تخلصنا والحمد لله تعالي من كوهين إلي الأبد!!! فلا مكان له في مصر، ولا مكان له في مجتمعنا، فالمشكلة الآن بين حسن ومرقص، لعل هذه الطريقة في التفكير هي التي أدت إلي تفاقم المشكلة بين حسن ومرقص. المشكلة الحقيقة تكمن في قلوب حسن ومرقص وكوهين واستعداد هذه القلوب لممارسة الكره الذي يضعه ويحرسه روح شرير اسمه روح الكراهية والبغضة. وإليك هذه القصة الخيالية المعبرة والموضحة لما أقول: يحكى أنه في سالف العصر والأوان أن حديقة للحيوان كان بها أسد وثلاثة خيول أحداهما أسود والثاني أحمر والثالث أبيض، وكان الأسد يعلم أنه لا يستطيع إلا أن يفترس حصاناً واحداً في المرة الواحدة وبعيداً عن الآخرين. قال الأسد للحصانين الأبيض والأحمر، أنتما حصانان أصيلان كما يدل عليه لونكما، فما بالكما تشاركان حياتكما وأرضكما مع هذا الحصان الأسود، لماذا لا تطردانه من مجتمعكما، وأنا أفترسه، وتبقى الأرض لكما وحدكما، فلتجدن أشد الحيونات عداوة لكما الحصان الأسود، فكر الحصانان واتفقا ضد الحصان الأسود، وأظهرا عداوتهما له وتركا الأسد يفترسه، صرخ الحصان الأسود ولم يُعنه الحصانان الأحمر والأبيض. أنهى الأسد علي الحصان الأسود تماماً ثم جاع مرة أخرى، فجاء ليتحدث للحصان الأبيض علي حدة، قال له أنت خير فصيلة أخرجت للحيوانات، فلونك الأبيض يدل علي نقاوتك وطهارتك، فما بالك تتقاسم العيش مع هذا الحصان الدموي الأحمر، لماذا لا تدعني أفترسه وتصبح أنت سيد الغابة والحصان الوحيد؟ بلع الحصان الأبيض الطعم، وقال في نفسه لابد أن تصير الأرض لي أنا فقط، فكل حصان غير أبيض وليس من فصيلتي لا مكان له في أرضي، وصدق الأسد وفرط في أخيه الحصان الأحمر. افترس الأسد الحصان الأحمر، صرخ الحصان الأحمر فلم يهتم به أحد ولم يسرع لنجدته، بقي الحصان الأبيض في الغابة يجري ويرمح، فالأرض أصبحت أرضه، والأسد صديقه، وظن أنه ملك مقصده وأنه كان علي حق في أن يترك الأسد ليفترس الحصان الأسود والأحمر. ثم جاع الأسد مرة أخرى. في تلك المرة اقترب الأسد من الحصان الأبيض وكشر عن أنيابه، علم الحصان الأبيض أن نهايته قد اقتربت ولا منقذ، فما عمله مع الحصانين الأسود والأحمر لابد أن يحدث معه، وأن ما يزرعه الحصان فإياه يحصد أيضاً، وأنه بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وإن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون، وسافك دم الإنسان لابد أن يسفك دمه، صرخ الحصان الأبيض قبل افتراسه وقال مقولته الشهيرة وهي لب القصة ومحورها، قال الحصان الأبيض: "آه إني أكلت يوم أكل الفرس الأسود". أي أنه يوم دخلت الكراهية والعنف والانتقام إلي قلبه وفرط في أخيه الأسود، كانت هذه نهايته، مع أنه عاش فترة تبدو أنها سعيدة مع الحصان الأحمر، ثم عاش فترة تبدو أكثر سعادة وحده دون الحصان الأحمر، ولم يدر أن هناك خطة للأسد لافتراسه هو بدأت بافتراس الحصان الأسود. لست أدري ما الذي ذكرني بهذه القصة المعبرة عندما رأيت نار الحقد والكراهية تتأجج في قلب حسن ومرقص وقد نسوا كوهين الحصان الأسود. فلقد عاش حسن ومرقص وكوهين في فترة من الزمان في اتفاق وسلام نسبي، نعم كان لكل منهم دينه وخلفيته وتقاليده وعاداته واختلافاته مع الآخرين حتي اتفق حسن ومرقص علي كوهين، نسى حسن ومرقص أن كوهين هو الأصل، وأنه في البدء كان كوهين، عندما أراد الله أن يختار شعباً له يظهر فيه صبره ومحبته ورحمته وعدله وقدرته اختار كوهين في القديم، وخصه بالعهود والاشتراع والأنبياء، نعم لم يغلق الباب أمام بقية الشعوب ولم يرفضهم، ففي كل أمة كان ولا يزال الذي يتقيه ويصنع البر مقبولاً عنده، لكنه أراد أن يظهر عظمته من خلال شعب واحد اختاره من بين الشعوب، اتفق حسن ومرقص ضد كوهين بعد أن نسي مرقص أن نبيه ومسيحه وإلهه جاء من نسل كوهين، وأن رسله وأنبياءه بولس وبطرس ومرقس وغيرهم جاءوا من نسل كوهين، وأن إبراهيم خليل الله ما كان يوماً مسيحياً أو مسلماً، كما ادعى الاثنان بل هو أصل كوهين. نسى مرقس أن الرسالة والبشارة والإنجيل قد تسلمه من خلال كوهين وأن كوهين هو الذي حفظ له التعليم الصحيح القويم دون تحريف أو تبديل وأسلم نسل كوهين أنفسهم للقتل والصلب والحرق والسحل وفم الأسود دفاعاً عما ينعم به مرقس اليوم من مسيحية. خاف مرقس من حسن، فحسن علموه أن أشد الناس عداوة له هو كوهين فأبغضه، وقاتله حيث ثقفه وتفنن في إيذائه وطرده من بلاده، جامل مرقس حسن علي حساب كوهين، حتى تعاليمه المسيحية أصبحت تترجم من خلال نظرة حسن لكوهين، فالإيمان بالملك الألفي أصبح اختراقاً صهيونياً للمسيحية، وزيارة الأماكن المقدسة أصبحت محرمة بالقانون الكنسي، والكنائس التي تؤمن أن كوهين هو شعب الله المختار أصبحت عميلة للصهيونية وغيرها ممن يستحقون الافتراس. أرضعونا كراهية كوهين في المدارس والإذاعات والتليفزيونات. من يكره كوهين أكثر يحبه الناس أكثر، من يخرج بأغنية تتغنى بكراهية كوهين يتحول بين ليلة وضحاها من مكوجي يصارع مع لقمة العيش لتوفيرها إلي مليونير تستضيفه الإذاعات والتليفزيونات. البطل هو الذي يلعن كوهين، والشهيد هو الذي يفجر نفسه ويقتل أكبر عدد ممكن من أهل كوهين، ضمان الجنة والحوريات وقصور الآخرة مضمونة لمن يدمر كوهين، الأطفال يخضبون أيديهم ورؤوسهم بالدماء وهم يتغنون بالانتقام من كوهين، ثقافة الكراهية في الشرق الأوسط أنتجت الإنسان العربي القاتل الظالم الإرهابي، وأخفت عن العيون محاسنه وفضائله وعراقته. ارتكب حسن اليوم كل ما يلوم كوهين على ما فعله البارحة، كوهين يؤمن ان الله سبحانه وتعالى قد أعطاه الأرض، حارب أهلها وأحتل ديارهم قبل أن يوجد حسن أو مرقس. يوم كانت الأرض ملكا لمن يستطيع بناءها وتعميرها. أخذ كوهين الأرض, عمرها وبنى بها مدن وقصور، عاش فيها قرون وقرون, جاء مرقس وبعدها جاء حسن. حارب حسن مرقس وكوهين في بلادهم وأرضهم وأرزاقهم وأحتل ديارهم وشرد أهلهم ومحى ثقافتهم ولغتهم وتراثهم. أتهم حسن كوهين بأنه أستولى على أرضه. تاجر حسن بقضيته مع كوهين وربح ومازال وسيظل الى قيام الساعة. إن ما لم يفهمه من عمل وأخرج فيلم حسن ومرقس أن المسيح تبارك اسمه علم أتباعه وتلاميذه والمؤمنين به أن كل شجرة لابد أن تنتج ثمراً مشابهاً لها، فشجرة التين لا يمكن أن تنتج عنباً وشجرة العنب لا يمكن أن تنتج حسكاً، ولا تقدر شجرة جيدة أن تنتج ثمراً رديئاً ولا شجرة ردية أن تصنع ثمراً جيداً، لا يمكن لينبوع واحد أن يصنع ماء عذباً ومالحاً في نفس الوقت، لا يمكن للقلب أن ينتج محبة وكراهية في نفس الوقت، لا يمكن لنفس القلب والشخص الذي يكره كوهين أن يحب مرقس في نفس الوقت، فإما أن يحب كوهين ومرقس أو كوهين وحسن أو أن يكره كليهما. إن المتأمل في هذه القضية لا يمكن أن يفهم كيف قدمت الشاشة المصرية فيلم (السفارة في العمارة) لنفس الممثل القدير عادل إمام والذي صور كوهين بأنه انتهازي، ومجرم، وقاتل، وحرض الناس علي كراهيته والانتقام منه، ثم يقدم (حسن ومرقس) الذي يبدو أنه من خلاله أراد الناس أن يحبوا بعضهم البعض وينبذوا العنف والإرهاب. لقد علم المسيح أتباعه أن يحبوا الجميع: حسن ومرقس وكوهين، قال لهم أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلي مبغضيكم، قال لهم إن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم. لقد افترس أسد الكراهية كوهين، واليوم في طريقه إلي افتراس مرقس، وغداً سيفترس الأسد حسن، فالكراهية تفترس من حولها ثم تفترس نفسها، أما المحبة فتبني نفسها وأنفس من حولها. إن لم يحب حسن ومرقس كوهين فلن يحبوا بعضهم، وإن لم يحب حسن مرقس وكوهين فلن يحب نفسه، وسيفنى نفسه بنفسه، وعندها ربما يقول صرخته الأخيرة: آه إني أكلت يوم أكل كوهين، ففي البدء كان كوهين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق