البـابا.. من رمـوز الوطـن
يوميات الأخبار
يكتبها اليوم .. جمال الغيطاني
<< ان الكتابة عن الشأن الطائفي، أو عن رموز الوطن يجب ان تتسم بالحساسية، والبابا شنودة رمز جليل يجب ألا يجري مساس به، تماما مثل شيخ الأزهر. << عندما قرأت ما كتبه احد الزملاء الاسبوع الماضي في جريدة »الأهرام« انتابني انزعاج شديد وحزن وخوف. لن أعيد ما كتبه الزميل في عموده الاسبوعي، أما الانزعاج فلأن كتابات الفتنة خطت بهذا المقال خطوة واسعة في اتجاه تمزيق الوطن وتعميق الفجوة بين ابنائه، والمؤسف ان رموزا من العقلاء انزلقت ألسنتهم وأيديهم في هذا الاتجاه. فعندما يقول مفكر رصين وقانوني ضليع مثل الدكتور محمد سليم العوا من منبر إعلامي ذائع ومؤثر ان الكنائس المصرية مليئة بالأسلحة فهذا تحريض علي الفتنة ودعوة للهجوم عليها أو اعتبارها أهدافا معادية. وكنت انتظر ان يقدم الدكتور دليلا علي ما ذكره، الاماكن التي توجد بها الأسلحة وأنواعها وإذا أمكن مصادرها. لكنه اكتفي بالقول المرسل، وتركه معلقا ليبدأ انزلاقه مثل كرة الثلج، والاخطر من ذلك ان هذا القول الخطير مر بدون حساب، بدون ان يساءل الدكتور العوا حتي من نقابة المحامين التي ينتمي إليها عن مصادر قوله هذا وما يستند إليه، خاصة انه مفكر محترم، وقانوني ضليع، وأنا شخصيا أكن له احتراما، لكن مثل هذا التصريح اعتبره من أقوال الفتنة والتحريض، وصدوره عن واحد من أفراد النخبة الثقافية يعني ان خللا جسيما يسري ولا يوجد من يواجهه، بالطبع كان حزني بسبب صدوره عن شخصية مثل الدكتور العوا، أما الخوف فمن التوابع المحتملة لهذا القول، خاصة انني لاحظت في نفس الفترة خروج مظاهرات معادية من مصريين مسلمين ضد مصريين أقباط، وجري تطاول مشين ضد البابا، تابعت ذلك من خلال الولايات المتحدة، وردود الفعل التي اتيح لي ان أقف عليها، وقد رأيت طبيبا مصريا نابغة يعمل في المستشفي الذي كنت نزيلا به، جاءني يبكي تأثرا وهو يردد، »هل يرضيك ما قيل عن سيدنا«، هدأت خواطره، وقلت ان الامر ربما كان فيه بعض المبالغة، كما ان المتظاهرين بينهم بسطاء لا يعرفون خطورة ما يقولونه، وان كان الشحن المعنوي الذي يقوم به بعض الخطباء والمنتمين إلي التيار الديني السياسي لا يمكن ان يوصف بالبراءة ثم جاء مقال الزميل عن الاقباط وعن قداسة البابا الاسبوع الماضي ليصب نارا وليهين مشاعر ملايين المصريين المسيحيين، ان الكتابة في الشأن الطائفي أو عن المشاكل المتعلقة بالعلاقات بينهم وبين المجتمع يجب ان تكون حساسة جدا، وعندما يضع كاتب عنوانا مثل »أقباط ٠١٠٢« فهو يهين ملايين المسيحيين المصريين، لما يحويه من استخفاف، فالتداعي المباشر لهذا العنوان انه يساويهم بأي شيء له لوجو أو ماركة متغيرة، كأن اخوة الوطن شيء!. وهذا مشين. أما ما نسبه للبابا فيحوي قدرا كبيرا من الافتراء. انني آسف ليوم اضطر فيه إلي التذكير بالمواقف الوطنية للبابا شنودة. هو الضابط الذي حارب في صفوف الجيش المصري من أجل فلسطين، وهو المجدد تقاليد الكنيسة المصرية ليس باعتبارها مؤسسة كهنوتية ولكن باعتبارها مؤسسة وطنية، ولو انه لم يقل إلا جملته الشهيرة، ان مصر وطن يعيش فينا ونعيش فيه »لكفاه«، وهو الذي اتخذ موقفا حازما بالنسبة لزيارة القدس، ان أشعاره موجودة. وكتابته وعظاته، فكر البابا معلن، وليست عنده كتابات سرية، ومن أكثر الأمور سذاجة في هذا المقال ما ذكره الكاتب ان البابا قال في بداية توليه البابوية انه يخطط لكي يصبح عدد الأقباط مساويا لعدد المسلمين في عام ألفين، كيف يمكن ترديد ذلك أو حتي إعلانه في جريدة عريقة من أعرق صحف العالم؟، من المؤسف ان الزمن سار في اتجاه مغاير، ان عدد الأقباط في مصر يتناقص بشكل سريع نتيجة تزايد معدلات الهجرة، واخشي إذا استمر هذا المعدل ان نصل في يوم نجد مصر يسودها لون واحد، عندئذ يبدأ انقسام هذا اللون علي نفسه، ان المصريين أمة من أكثر أمم الأرض تجانسا وتماسكا. وهبنا الله أسبابا وأصولا في مكوناتنا الوطنية يعمل بعضنا الآن من الجانبين علي تفتيتها وتدمير ركائزها، ان ملامحي لا تختلف عن أي ملامح مصري مسيحي، ولو اننا تفحصنا أسباب التعايش لوجدناها أكثر وأعمق، في البلاد العربية يعرف الأشخاص من ملامحهم ومن اسمائهم حتي داخل الدين الواحد، وفي مصر انسجام غير موجود في أي أمة إنسانية، ولذلك كانت جهود القوي المتربصة بها تحار في النفاذ إلي ما يمكن ان يشرذم تماسكها ويفجرها من الداخل، النقطة الوحيدة التي حاول الأجانب واعداء مصر أيا كانوا هي العلاقة بين المصريين المسلمين والمصريين المسيحيين، وهذا ما فشل فيه الفرنسيون والإنجليز وإسرائيل من بعدهما في العصر الحديث، غير ان مجمل المتغيرات في المنطقة وفي مصر نفسها منذ السبعينات في القرن الماضي تنذر بخطر يتفاعل أكثر مع الوقت، وها نحن نري من حولنا الكيانات المحيطة وقد بدأت تتفتت، العراق لم يعد يوجد بوحدته التي كانت، تحكمه الطائفية الآن وضحاياها أكثر من ضحايا العدوان والاحتلال الأمريكي، السودان وثيق الصلة بمصر يتفتت بسبب مسئولية النظام الذي تسيطر عليه الجبهة الإسلامية، لذلك لا يمكن اعتبار مثل هذه الكتابات التي تؤجج للفتنة انها تدخل في باب حرية الرأي، لابد التصدي لها فكريا وتلك مهمة الكتاب والمفكرين الوطنيين، ولابد من تشريع يجرم الخوض في العقائد ويمنع التعريض بالاعراق ونحمد الله كثيرا ان مصر خالية من المشكلة الأخيرة، ان اعتي الديموقراطيات في العالم لا تسمح قوانينها بالخوض في العقائد أو التعريض بالاجناس البشرية، وأفظع تهمة يمكن ان تلصق بإنسان في الغرب معاداته للسامية علي سبيل المثال، ان اهانة الرموز الكبري للوطن مرفوضة، مرفوضة اخلاقيا وفكريا قبل ان تكون مرفوضة بالقانون، لقد احسن رئيس تحرير الأهرام بتدارك الأمر في اليوم التالي الذي كتب فيه افتتاحية واعية بخطورة ما نشر، انني قرأت بعض المقالات العاتبة والغاضبة من أخوة أقباط، ولكن اهانة البابا لا تخص المصريين الاقباط وحدهم إنما هي شأن يخص المصريين كلهم، وبالنسبة للبابا شنودة بالذات سيعرف المصريون يوما ان هذا الرجل العظيم سد منيع ضد المتعصبين والمتطرفين بين المصريين الأقباط، وانني لمورد جزءا من افتتاحية جريدة »أخبار الادب نشر في عدد الرابع عشر من نوفمبر الماضي، »لقد كتبنا سابقا ضد رجال الدين المسيحي المتطرفين الذين حاولوا فرض وصايتهم علي عمل الروائي يوسف زيدان »عزازيل« ورفضنا قولهم بان الروائي يزدري الدين المسيحي وطالبناهم بالكف عن الحديث حول الابداع لانه ليس من اختصاصهم كما اننا اتهمناهم بتغذية روح الكراهية والآن جاء دور شيوخ التطرف الذين يحاولون قلب الغلابة علي اخوتهم الاقباط ورموزهم الكبيرة، ونؤكد مجددا التطاول علي البابا شنودة مرفوض ويرسخ لمسألة خطيرة تحت دعاوي حرية الرأي والتعبير والحق في التظاهر. كلها أمور يجب ان تكون مكفولة ولكن لابد من مراعاة الآخرين، وألا يصبح الحق في حرية الرأي حقا في حرية التطاول.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق