يرى البعض -وربما الكثيرون- أن مطالب الأقباط لتحسين وضعهم داخل الوطن، هي مطالب لدى الدولة أو الحكومة، وأنه يكفي لتحقيقها أن تصدر الحكومة مجموعة من القرارات أو القوانين، تحقق هذه المطالب. . الحقيقة أن عدداً قليلاً فقط من هذه المطالب، ينطبق عليها هذا التوصيف، أما البقية فلا يفيد فيها مثل تلك القرارات الفوقية المنتظرة. . فإلغاء ما يسمى بالخط الهمايوني وشروط العزبي باشا لبناء الكنائس، يحقق بالفعل، وبمجرد صدور قانون موحد لإنشاء دور العبادة، يحقق انهاء مأساة بناء الكنائس، وما يترتب عليها من احتكاكات واعتداءات من الغوغاء المدعومين بالأمن، على الأقباط وكنائسهم، بل وبيوتهم ومحال تجارتهم. . من طلبات الأقباط أيضاً التي لا تحتاج لأكثر من قرار أو قانون، وفي بعض الأحيان لا تحتاج لهذا أو لذاك، بل لمجرد التنبيه على القائمين على الأمور، بتفعيل المواطنة والمساواة في قراراتهم، من هذه الأمور تحديد وتحجيم تواجد الأقباط في الكليات العسكرية والشرطة، ومنعهم تماماً من التواجد في جهاز أمن الدولة، وكأن الأقباط مشكوك في ولائهم لهذا الوطن، رغم أنهم في مقدمة أبنائه الأصلاء (بالطبع ليسوا وحدهم في هذا الانتماء الأصيل، فالانتماء للوطن لا يحدده دين الإنسان)، أيضاً ما يوجه للأقباط من إهانات في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، مثل الجرائد والقنوات التليفزيونية المسماة بالقومية، بل وفي مقررات التعليم، كذا الترقيات الوظيفية في الحكومة والقطاع العام، والتي يتم التضييق على الأقباط في الوصول إليها، ويتم تجاوزهم، مما يحرم تلك الوظائف من أكفاء، يمكن أن يقوموا بواجبات تلك الوظائف على أفضل وجه، بالإضافة إلى ما يسببه ذلك التجاوز والظلم من إحباط لهؤلاء الذين يتم تخطيهم في الترقية، وقد يؤدي إلى الحد من عطائهم في عملهم. . مثل هذه الأمور لا يحتاج إصلاحها إلا أن يخلص القائمون على أمور البلاد النية، في تحقيق العدالة والمساواة، والالتزام بمفهوم المواطنة الذي نص عليه الدستور، بالإضافة إلى ضرورة صدور قانون لتجريم التمييز بين المصريين بكل أنواعه، وفي المقدمة بالطبع التمييز الديني.
لكن هناك أموراً ربما كانت هي الأخطر، والأكبر تأثيراً على حاضر الوطن ومستقبله، وليس على الأقباط فقط، هذه لا يفيد فيها قرارات ولاقوانين تصدر، مثل تولي أقباط مناصب محافظين وعمداء كليات ورؤساء جامعات، فمثل هذه الوظائف القيادية الكبرى والمتعلقة بالجماهير، والتي تختلط فيها السياسة بالواجبات الوظيفية، إذا ما تولاها أقباط في هذا الجو السائد من التعصب والاحتقان الطائفي، فإنهم سيترددون وربما يحجمون عن تحقيق العدالة وإحقاق الحق، إذا ما تعلق الأمر بحقوق مواطن قبطي، خوفاً من اتهامهم بالتحيز للأقباط، بل وأحياناً يرتكبون عكس ما يمليه عليهم الضمير المهني، بأن يظلموا وربما يضطهدوا أبناء وطنهم الأقباط، ليكتسبوا شهرة وشعبية لدى المتعصبين المسلمين. . نحن بالتأكيد –ربما جميعاً- كأقباط نلمس هذه الحالة، التي قد تعرض لها بالحتم كثيرون منا. . ومن الطريف أن نقرأ في التاريخ المصري القديم في المرحلة الفرعونية، عما يعرف "بعقدة أخيتي"، حيث كان "أخيتي" هذا وزيراً لفرعون، الذي اكتشف أنه يظلم أهله وعشيرته، لكي يشتهر بالعدالة، بل ونجد المفكر الراحل لويس عوض، يعترف في مذكراته أنه قد أعطى تقييماً منخفضاً لرسالة الدكتوراه التي قدمها أخوه رمسيس، فيما الأستاذان الآخران (وهما مسلمان) أعطيا الراسلة تقديراً مرتفعاً، ونجد العظيم لويس عوض يسجل على نفسه هذا الضعف، وينهي تلك القصة بحكمة رائعة قائلاً: "البعض يحكم بالظلم، لكي يشتهر بالعدل". . ويضاف إلى هذا أيضاً تجنبهم للدخول في مواجهات بصفة عامة، أياً كان أطراف الموضوع، لشعورهم بضعف موقفهم، وخوفهم من الإقالة أو ما شابه، بالطبع يتحمل البعض من الأقباط الذين يفعلون هذا جزءاً من اللوم، على ترددهم وضعف شخصياتهم، لكن اللوم الأكبر في رأيي، يقع على الوسط المحتقن بالتعصب، والذي يتطلب من حامل راية الحق أن يكون بطلاً أو فدائياً. . وأغلب الناس ليسوا أبطالاً، ونستطيع أن نقول "بئس المجتمع الذي يحتاج إحقاق الحق فيه إلى بطولة"!!
هذه الحالة –والتي تمثل الغالب الأعم- لا يفيد فيها القرارات والقوانين، لأنها متعقلة بالجو السائد في المجتمع، وهو ما يخرج تغييره بالفعل عن إمكانيات جهاز الدولة بجميع مستوياته. . فهي تتعلق وترتهن بتغيير ثقافة شعب، إلى التسامح بدلاً من التعصب، والمحبة بدلاً من الكراهية، وهذا لا يتحقق أبداً بقرارات فوقية، فقط الحراك الاجتماعي وتفاعلاته، هي وحدها التي يمكن أن تحسن من هذه الحالة، أو تزيدها تدهوراً. . لقد تعود المصريون عموماً على تحميل الدولة كل همومهم، وإسناد كل البلايا والأخطاء في حياتنا إليها، رغم أن الأهم والأخطر من مآسي حياتنا، لا ترجع بالأساس إلى الحاكم، وإنما إلى المحكومين المتضررين الشاكين أنفسهم.
البرلمان أو مجلس الشعب، تلك الهيئة التشريعية فائقة الأهمية والخطورة، تكاد تخلو من الأقباط، اللهم من يعينهم رئيس الجمهورية، فيكون ولاؤهم له، لا للشعب ولا للأقباط، ويلعبون دور المبرر لمواقف الدولة المتخاذلة تجاه معاناة الأقباط، بل ويستند إليهم الحاكم في تمرير ما يريد تمريره، وتكاد تنحصر مواقفهم في تجميل وتبييض الوجه الأسود للحالة الدينية المصرية.
لا نتفق أيضاً مع من يطالبون بكوتة للأقباط، أي تحديد نسبة معينة لتمثيلهم في البرلمان، فهذا لن يحل المشكلة الطائفية بمصر، بل يعطيها تكريساً، بتقنين الانفصال الطائفي، وقسمة المصريين في مجال السياسة على أساس الدين، وبالإضافة إلى أن أعلى نسبة يمكن أن تعطى للأقباط، لن تكون كافية لتمرير أي قانون أو قرار في مقابل أغلبية غير قبطية، خاصة وأن وضع الاستقطاب الديني هذا، سوف يجعل الأغلبية ترى نفسها دائماً، كما لو كانت خصماً أو طرفاً آخر. . أيضاً نظام الكوتة سوف يؤدي لدخول عناصر قبطية غير منخرطة في العمل العام، علاوة على أن ولاءها سيكون لمن أوصلها إلى الموقع، الذي تستشعر بالتأكيد أنها لا تستحقه، ولم تحصل عليه بجدارتها الخاصة. . نستبعد هنا أيضاً حجة أن الكوتة يمكن أن تكون مؤقتة، لتشجيع الأقباط على الانخراط في العمل العام، ليرتقي بعد ذلك مستواها ونشاطها إلى المستوى المطلوب، ذلك أن الخبرة المصرية في هذا الشأن تثبت عكس ذلك، فنسبة 50% للعمال والفلاحين، لم تحرضهم طوال تلك العقود الطوال على التحسين من مستواهم في الأداء السياسي، بل بالعكس، تدفعهم للكسل وللاتكال على صفة العمل والفلاح، وعلى ترشيح الحزب الوطني لهم.
خلاصة القول أن ما ندعو إليه من نزول الأقباط للاندماج في ساحة العمل العام، هو الحل والوحيد، والأمل إن كان هنالك ثمة أمل، في تحقيق آمال الشعب المصري، وفي القلب منه الأقباط، في حياة أفضل وغد مشرق، لا يضطر فيه أبناؤنا وأحفادنا، إلى الوقوف طوابير على أبواب السفارات الأجنبية، طلباً لتأشيرة دخول، تنقذ مستقبلهم من الضياع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق